فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



التواضع للدين هو الانقياد لما جاء به الرسول والاستسلام له والإذعان وذلك بثلاثة أشياء الأول: أن لا يعارض شيئا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم المسماة: بالمعقول والقياس والذوق والسياسة فالأولى: للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل وعزلنا النقل إما عزل تفويض وإما عزل تأويل والثاني: للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه قالوا: إذا تعارض القياس والرأي والنصوص: قدمنا القياس على النص ولم نلتفت إليه والثالث: للمتكبرين المنحرفين من المنتسبين إلى التصوف والزهد فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر قدموا الذوق والحال ولم يعبأوا بالأمر والرابع: للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة فهؤلاء الأربعة: هم أهل الكبر والتواضع: التخلص من ذلك كله الثاني: أن لا يتهم دليلا من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة أو ناقص الدلالة أو قاصرها أو أن غيره كان أولى منه ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه وليعلم أن الآفة منه والبلية فيه كما قيل:
وكم من عائب قولاصحيحا ** وآفته من الفهم السقيم

ولكن تأخذ الأذهان منه ** على قدر القرائح والفهوم

وهكذا الواقع في الواقع حقيقة: أنه ما اتهم أحد دليلا للدين إلا وكان المتهم هو الفاسد الذهن المأفون في عقله وذهنه فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك وأن تحته كنزا من كنوز العلم ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك وأما بالنسبة إلى غيرك: فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص فما لم تفعل ذلك فلست على شيء ولو ولو وهذا لا خلاف فيه بين العلماء قال الشافعي قدس الله روحه: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يحل له أن يدعها لقول أحد الثالث: أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلا ألبتة لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله بل إذا أحس بشيء من الخلاف: فهو كخلاف المقدم على الزنا وشرب الخمر وقتل النفس بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك وهو داع إلى النفاق وهو الذي خافه الكبار والأئمة على نفوسهم واعلم أن المخالف للنص لقول متبوعه وشيخه ومقلده أو لرأيه ومعقوله وذوقه وسياسته إن كان عند الله معذورا ولا والله ما هو بمعذور فالمخالف لقوله لنصوص الوحي أولى بالعذر عند الله ورسوله وملائكته والمؤمنين من عباده.
فواعجبا إذا اتسع بطلان المخالفين للنصوص لعذر من خالفها تقليدا أو تأويلا أو لغير ذلك فكيف ضاق عن عذر من خالف أقوالهم وأقوال شيوخهم لأجل موافقة النصوص وكيف نصبوا له الحبائل وبغوه الغوائل ورموه بالعظائم وجعلوه أسوأ حالا من أرباب الجرائم فرموه بدائهم وانسلوا منه لواذا وقذفوه بمصابهم وجعلوا تعظيم المتبوعين ملاذا لهم ومعاذا والله أعلم.
فصل:
قال: ولا يصح ذلك إلا بأن يعلم: أن النجاة في البصيرة والاستقامة بعد الثقة وأن البينة وراء الحجة يقول: إن ما ذكرناه من التواضع للدين بهذه الأمور الثلاثة: الأولى: علمه أن النجاة من الشقاء والضلال: إنما هي في البصيرة فمن لا بصيرة له: فهو من أهل الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة والبصيرة نور يجعله الله في عين القلب يفرق به العبد بين الحق والباطل ونسبته إلى القلب: كنسبة ضوء العين إلى العين وهذه البصيرة وهبية وكسبية فمن أدار النظر في أعلام الحق وأدلته وتجرد لله من هواه: استنارت بصيرته ورزق فرقانا يفرق به بين الحق والباطل الثاني: أن يعلم أن الاستقامة إنما تكون بعد الثقة أي لا يتصور حصول الاستقامة في القول والعمل والحال إلا بعد الثقة بصحة ما معه من العلم وأنه مقتبس من مشكاة النبوة ومن لم يكن كذلك فلا ثقة له ولا استقامة الثالث: أن يعلم أن البينة وراء الحجة والبينة مراده بها: استبانة الحق وظهوره وهذا إنما يكون بعد الحجة إذا قامت استبان الحق وظهر واتضح وفيه معنى آخر وهو: أن العبد إذا قبل حجة الله بمحض الإيمان والتسليم والانقياد: كان هذا القبول هو سبب تبينها وظهورها وانكشافها لقلبه فلا يصبر على بينة ربه إلا بعد قبول حجته وفيه معنى آخر أيضا: أنه لا يتبين له عيب عمله من صحته إلا بعد العلم الذي هو حجة الله على العبد فإدا عرف الحجة اتضح له بها ما كان مشكلا عليه من علومه وما كان معيبا من أعماله وفيه معنى آخر أيضا: وهو أن يكون وراء بمعنى أمام والمعنى: أن الحجة إنما تحصل للعبد بعد تبينها فإذا لم تتبين له لم تكن له حجة يعني فلا يقنع من الحجة بمجرد حصولها بلا تبين فإن التبين أمام الحجة والله أعلم.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: أن ترضى بما رضي الحق به لنفسه عبدا من المسلمين أخا وأن لا ترد على عدوك حقا وأن تقبل من المعتذر معاذيره يقول: إذا كان الله قد رضي أخاك المسلم لنفسه عبدا أفلا ترضى أنت به أخا فعدم رضاك به أخا وقد رضيه سيدك الذي أنت عبده عبدا لنفسه عين الكبر وأي قبيح أقبح من تكبر العبد على عبد مثله لا يرضى بأخوته وسيده راض بعبوديته فيجيء من هذا: أن المتكبر غير راض بعبودية سيده إذ عبوديته توجب رضاه بأخوة عبده وهذا شأن عبيد الملوك فإنهم يرون بعضهم خشداشية بعض ومن ترفع منهم عن ذلك: لم يكن من عبيد أستاذهم قوله: وأن لا ترد على عدوك حقا أي لا تصح لك درجة التواضع حتى تقبل الحق ممن تحب وممن تبغض فتقبله من عدوك كما تقبله من وليك وإذا لم ترد عليه حقه فكيف تمنعه حقا له قبلك بل حقيقة التواضع أنه إذا جاءك قبلته منه وإذا كان له عليك حق أديته إليه فلا تمنعك عداوته من قبول حقه ولا من إيتائه إياه وأما قبولك من المعتذر معاذيره فمعناه: أن من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته حقا كانت أو باطلا وتكل سريرته إلى الله تعالى كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين الذين تخلفوا عنه في الغزو فلما قدم جاءوا يعتذرون إليه فقبل أعذارهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى وعلامة الكرم والتواضع: أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفه عليه ولا تحاجه وقل يمكن أن يكون الأمر كما تقول ولو قضى شيء لكان والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: أن تتضع للحق فتنزل عن رأيك وعوائدك في الخدمة ورؤية حقك في الصحبة وعن رسمك في المشاهدة بقول: التواضع بأن تخدم الحق سبحانه وتعبده بما أمرك به على مقتضى أمره لا على ما تراه من رأيك ولا يكون الباعث لك داعي العادة كما هو باعث من لا بصيرة له غير أنه اعتاد أمرا فجرى عليه ولو اعتاد ضده لكان كذلك وحاصله: أنه لا يكون باعثه على العبودية مجرد رأي وموافقة هوى ومحبة ولا عادة بل الباعث مجرد الأمر والرأي والمحبة والهوى والعوائد: منفذة تابعة لا أنها مطاعة باعثة وهذه نكتة لا يتنبه لها إلا أهل البصائر وأما نزوله عن رؤية حقه في الصحبة فمعناه: أن لا يرى لنفسه حقا على الله لأجل عمله فإن صحبته مع الله بالعبودية والفقر المحض والذل والانكسار فمتى رأى لنفسه عليه حقا فسدت الصحبة وصارت معلولة وخيف منها المقت ولا ينافي هذا ما أحقه سبحانه على نفسه من إثابة عابديه وإكرامهم فإن ذلك حق أحقه على نفسه بمحض كرمه وبره وجوده وإحسانه لا باستحقاق العبيد وأنهم أوجبوه عليه بأعمالهم فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي هو مفترق الطرق والناس فيه ثلاث فرق فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقا فقالت: لا يجب على الله شيء ألبتة وأنكرت وجوب ما أوجب على نفسه وفرقة رأت أنه سبحانه أوجب على نفسه أمورا لعبده فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله وأن أعماله كانت سببا لهذا الإيجاب والفرقتان غالطتان والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحا ولا يدخل أحدا عمله الجنة أبدا ولا ينجيه من النار والله تعالى بفضله وكرمه ومحض جوده وإحسانه أكد إحسانه وجوده وبره بأن أوجب لعبده عليه سبحانه حقا بمقتضى الوعد فإن وعد الكريم إيجاب ولو بعسى ولعل ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: عسى: من الله واجب ووعد اللئيم خلف ولو اقترن به العهد والحلف والمقصود: أن عدم رؤية العبد لنفسه حقا على الله لا ينافي ما أوجبه الله على نفسه وجعله حقا لعبده قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد قال: الله ورسوله أعلم قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا يا معاذ أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت: الله ورسوله أعلم قال: حقهم عليه: أن لا يعذبهم بالنار» فالرب سبحانه ما لأحد عليه حق ولا يضيع لديه سعي كما قيل:
ما للعباد عليه حق واجب ** كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعد له أو نعموا ** فبفضله وهو الكريم الواسع

وأما قوله: وتنزل عن رسمك في المشاهدة أي من جملة التواضع للحق: فناؤك عن نفسك فإن رسمه هي نفسه والنزول عنها: فناؤه عنها حين شهوده الحضرة وهذا النزول يصح أن يقال كسبي باعتبار وإن كان عند القوم غير كسبي لأنه يحصل عند التجلي والتجلي نور والنور يقهر الظلمة ويبطلها والرسم عند القوم ظلمة فهي تنفر من النور بالذات فصار النزول عن الرسم حين التجلي ذاتيا ووجه كونه كسبيا: أنه نتيجة المقامات الكسبية ونتيجة الكسبي كسبي، وثمرته وإن حصلت ضرورة بالذات: لم يمتنع أن يطلق عليها كونها كسبية باعتبار السبب والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآيات (68- 71):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ما تحلوا به من أصول الطاعات، بما لهم من العدل والإحسان بالأفعال والأقوال، في الأبدان والأموال، أتبعه ما تخلوا عنه من أمهات المعاصي التي هي الفحشاء والمنكر، فقال: {والذين لا يدعون} رحمة لأنفسهم واستعمالًا للعدل {مع الله} أي الذي اختص بصفات الكمال {إلهًا} وكلمة {مع} وإن أفهمت أنه غير، لكن لما كانوا يتعنتون حتى أنهم يتعرضون بتعديد الأسماء كما مر في آخر سبحان والحجر، قال تعالى قطعًا لتعنتهم: {آخر} أي دعاء جليًا بالعبادة له، ولا خفيًا بالرياء، فيكونوا كمن أرسلت عليهم الشياطين فأزتهم أزًا.
ولا نفى عنهم ما يوجب قتل أنفسهم بخسارتهم إياها، أتبعه قتل غيرهم فقال: {ولا يقتلون} أي بما تدعو إليه الحدة {النفس} أي رحمة للخلق وطاعة للخالق.
ولما كان من الأنفس ما لا حرمة له، بين المراد بقوله: {التي حرم الله} أي قتلها، أي منع منعًا عظيمًا الملك الأعلى- الذي لا كفوء له- من قتلها {إلا بالحق} أي بأن تعمل ما يبيح قتلها.
ولما ذكر القتل الجلي، أتبعه الخفي بتضييع نسب الولد، فقال: {ولا يزنون} أي رحمة لما قد يحدث من ولد، إبقاء على نسبه، ورحمة للمزني بها ولأقاربها أن تنهتك حرماتهم، مع رحمته لنفسه، على أن الزنى جارّ أيضًا إلى القتل والفتن، وفيه التسبب لإيجاد نفس بالباطل كما أن القتل تسبب إلى إعدامها بذلك، وقد روي في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم- وفي رواية: أكبر- عند الله؟ قال: أن تدعو لله ندًا هون خلقك، قال: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أيّ؟ قال: أن تزني بحليلة جارك، فأنزل الله تصديق ذلك {والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر} [الفرقان: 68] الآية وقد استشكل تصديق الآية للخبر من حيث إن الذي فيه قتل خاص وزنى خاص، والتقييد بكونه أكبر، والذي فيها مطلق القتل والزنى من غير تعرض لعظم، ولا إشكال لأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه: الأول: الاعتراض بين المبتدأ الذي هو {وعباد} وما عطف عليه، والخبر الذي هو {أولئك يجزون} [الفرقان: 75] على أحد الرأيين بذكر جزاء هذه الأشياء الثلاثة خاصة، وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام.